فصل: تفسير الآيات (18- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (18- 22):

{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22)}
{وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} مثل عاد وثمود وغيرهم فأهلكوا، {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} كيف يخلقهم ابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} في الآخرة عند البعث {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
{قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} فانظروا إلى ديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم، {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} أي: ثم الله الذي خلقها ينشئها نشأة ثانية بعد الموت، فكما لم يتعذر عليه إحداثها مبدءًا لا يتعذر عليه إنشاؤها معيدًا. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {النَّشْأَة} بفتح الشين ممدودة حيث وقعت، وقرأ الآخرون بسكون الشين مقصورة نظيرها الرّأفة والرآفة. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} تردون.
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} فإن قيل: ما وجه قوله: {ولا في السماء} والخطاب مع الآدميينُ وهم ليسوا في السماء؟.
قال الفراء: معناه ولا من في السماء بمعجز، كقول حسان بن ثابت:
فَمَنْ يَهْجُو رسولَ الله مِنْكُمْ ** وَيَمْدَحُهُ وينْصُرُهُ سَوَاءُ

أراد: من يمدحه ومن ينصره، فأضمر {من}، يريد: لا يعجزه أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء. وقال قطرب: معناه وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها، كقول الرجل: ما يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة، أي: ولا بالبصرة لو كان بها، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي: من وليٍّ يمنعكم مني ولا نصير ينصركم من عذابي.

.تفسير الآيات (23- 26):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوه أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)}
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} بالقرآن وبالبعث، {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} جنتي، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهذه الآيات في تذكير أهل مكة وتحذيرهم، وهي معترضة في قصة إبراهيم، فقال جل ذكره: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ}.
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّار} وجعلها عليه بردًا وسلامًا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يصدقون.
{وَقَالَ} يعني إبراهيم لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} قرأ ابن كثير، والكسائي، وأبو عمرو، ويعقوب: {مودةٌ} رفعًا بلا تنوين، {بينكم} خفضًا بالإضافة على معنى: إن الذين اتخذتم من دون الله أوثانا هي مودة بينكم، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة. ونصب حمزة، وحفص: {مودة} من غير تنوين على الإضافة بوقوع الاتخاذ عليها. وقرأ الآخرون {مودةَ} منصوبة منونة {بينَكم} بالنصب، معناه: إنكم إنما اتخذتم هذه الأوثان مودةً بينكم في الحياة الدنيا تتواردون على عبادتها وتتواصلون عليها في الدنيا. {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} تتبرأ الأوثان من عابديها، وتتبرأ القادة من الأتباع، وتلعن القادة، {وَمَأْوَاكُمُ} جميعًا العابدون والمعبودون، {النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} يعني: صدقه، وهو أول من صدق إبراهيم وكان ابن أخيه، {وَقَالَ} يعني إبراهيم، {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} فهاجر من كوثى، وهو من سواد الكوفة، إلى حران ثم إلى الشام، ومعه لوط وامرأته سارة، وهو أول من هاجر، قال مقاتل: هاجر إبراهيم عليه السلام وهو ابن خمس وسبعين سنة، {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)}
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} يقال: إن الله لم يبعث نبيًا بعد إبراهيم إلا من نسله، {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} وهو الثناء الحسن فكل أهل الأديان يتولونه، وقال السدي: هو الولد الصالح، وقيل: هو أنه رأى مكانه في الجنة، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} أي: في زمرة الصالحين. قال ابن عباس: مثل آدم ونوح.
قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: {أئنكم} بالاستفهام، وقرأ الباقون بلا استفهام، واتفقوا على استفهام الثانية، {لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} وهي إتيان الرجال، {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}.
{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} وذلك أنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمّر بهم من المسافرين، فترك الناس الممر بهم. وقيل: تقطعون سبيل النسل بإيثار الرجال على النساء، {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} النادي، والندى، والمنتدى: مجلس القوم ومتحدثهم. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو العباس بن سهل بن محمد المروزي، أخبرنا جدي لأمي أبو الحسن المحمودي، أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، أن بشر بن معاذ حدثهم: أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك بن حرب، عن أبي صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب عن أم هانئ قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قلت: ما المنكر الذي كانوا يأتونه؟ قال: «كانوا يحذفون أهل الطرق ويسخرون بهم».
ويروى أنهم كانوا يجلسون في مجالسهم، وعند كل رجل منهم قصعة فيه حصى فإذا مرّ بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به. وقيل: إنه كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرمه ثلاثة دراهم، ولهم قاضٍ بذلك. وقال القاسم بن محمد: كانوا يتضارطون في مجالسهم. وقال مجاهد: كان يجامع بعضهم بعضًا في مجالسهم. وعن عبد الله بن سلام قال: كان يبزق بعضهم على بعض. وعن مكحول قال: كان من أخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء، وحل الإزار، والصفير، والحذف، واللواطية، {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} لما أنكر عليهم لوط ما يأتونه من القبائح، {إِلا أَنْ قَالُوا} له استهزاء: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أن العذاب نازل بنا، فعند ذلك.

.تفسير الآيات (30-32):

{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)}
{قَالَ} لوط: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} بتحقيق قولي في العذاب.
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} من الله بإسحاق ويعقوب، {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} يعني قوم لوط، والقرية سدوم، {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}.
{قَالَ} إبراهيم للرسل: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا} يعني: قالت الملائكة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ}.
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب: {لَنُنْجينه} بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، {وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} أي: الباقين في العذاب.

.تفسير الآيات (33- 37):

{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنزلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)}
{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} ظن أنهم من الإنس، {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ} بمجيئهم {ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ} قومك علينا، {وَلا تَحْزَنْ} بإهلاكنا إيّاهم، {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، ويعقوب: {مُنْجُوك} بالتخفيف، وقرأ الآخرون بالتشديد.
{إِنَّا مُنزلُونَ} قرأ ابن عامر بالتشديد، وقرأ الآخرون بالتخفيف، {عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا} عذابًا، {مِنَ السَّمَاءِ} قال مقاتل: الخسف والحصب، {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}.
{وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا} من قريات لوط، {آيَةٍ بَيِّنَةٍ} عبرة ظاهرة، {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول، قال ابن عباس: الآية البينة: آثار منازلهم الخربة. وقال قتادة: هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الأمة. وقال مجاهد: هي ظهور الماء الأسود على وجه الأرض.
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شُعيبًا، {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ} أي: واخشوا، {وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ}.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}
{وَعَادٍ وَثَمُودَ} أي: وأهلكنا عادًا وثمودًا، {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ} يا أهل مكة، {مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} منازلهم بالحِجْر واليمن، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} عن سبيل الحق {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} قال مقاتل، والكلبي، وقتادة: كانوا معجبين في دينهم وضلالتهم، يحسبون أنهم على هدى، وهم على الباطل، والمعنى: أنهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين. قال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر.
{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ} أي: أهلكنا هؤلاء، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات، {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} أي: فائتين من عذابنا.
{فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} قوم لوط، والحاصب: الريح التي تحمل الحصباء، وهي الحصاه الصغار، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَة} يعني ثمود، {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرْضَ} يعني قارون وأصحابه، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} يعني: قوم نوح، وفرعون وقومه، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.

.تفسير الآيات (41- 43):

{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ (43)}
{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: الأصنام، يرجون نصرها ونفعها، {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} لنفسها تأوي إليه، وإن بيتها في غاية الضعف والوهاء، لا يدفع عنها حرًا ولا بردًا، وكذلك الأوثان لا تمللك لعباديها نفعًا ولا ضرًا. {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قرأ أهل البصرة، وعاصم: {يدعون} بالياء لذكر الأمم قبلها، وقرأ الآخرون بالتاء.
{وَتِلْكَ الأمْثَالُ} الأشباهُ والمَثَلُ: كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأول، يريد: أمثال القرآن التي شبه بها أحوال كفار هذه الأمة بأحوال كفار الأمم المتقدمة، {نَضْرِبُهَا} نبينها، {لِلنَّاسِ} قال مقاتل: لكفار مكة، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} أي: ما يعقل الأمثال إلا العلماء الذين يعقلون عن الله. أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، أخبرنا ابن برزة، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة، أخبرنا داود بن المحبر، أخبرنا عباد بن كثير، عن ابن جريج عن عطاء وأبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} قال: «العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه».

.تفسير الآيات (44- 45):

{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)}
قوله عز وجل: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ} أي: للحق وإظهار للحق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} في خلقها، {لآيَة} لدلالة {لِلْمُؤْمِنِينَ} على قدرته وتوحيده.
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يعني القرآن، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} الفحشاء: ما قبح من الأعمال، والمنكر: ما لا يعرف في الشرع. قال ابن مسعود، وابن عباس: في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصي الله، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف، ولم تنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدًا.
وقال الحسن، وقتادة: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه. وروي عن أنس قال: كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه، فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله فقال: «إن صلاته تنهاه يوما» فلم يلبث أن تاب وحسن حاله. وقال ابن عون: معنى الآية أن الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها.
وقيل: أراد بالصلاة القرآن، كما قال تعالى: {ولا تجهر بصلاتك} [الإسراء – 110]، أي: بقراءتك، وأراد أنه يقرأ القرآن في الصلاة، فالقرآن ينهاه عن الفحشاء والمنكر. أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، أخبرنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن رجلا يقرأ القرآن الليل كله فإذا أصبح سرق، قال: «ستنهاه قراءته».
وفي رواية قيل: يا رسول الله إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل، فقال: «إن صلاته لتردعه». قوله عز وجل: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: ذكر الله افضل الطاعات. أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران ببغداد، أخبرنا أبو علي الحسين بن صفوان البردعي، أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، أخبرنا هارون بن معروف أبو علي الضرير، أخبرنا أنس بن عياض، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش، عن أبي تجربة، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق، وأن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم»؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ذكر الله».
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، أخبرنا أبو الأسود، أخبرنا ابن لهيعة عن دراج، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أيّ، العباد أفضل، درجةً عند الله يوم القيامة؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا» قالوا: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ فقال: «لو ضرب بسيفه الكفّار والمشركين حتى ينكسر أو يختضب دمًا، لكان الذاكر الله كثيرًا أفضل منه درجة». وروينا أن أعرابيا قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: «أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله».
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج القشيري، أخبرنا أمية بن بِسْطام العَيْشِيُّ، أخبرنا يزيد، يعني ابن زريع، أخبرنا رَوْح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمّر على جبل يقال له جَمْدَان، فقال: «سيروا، هذا جُمْدان، سبق المُفَرَّدون»، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات».
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصَّلت، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا خلاد بن أسلم، حدثنا النضر، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت الأغَرَّ قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده». وقال قوم: معنى قوله: {ولذكر الله أكبر} أي: ذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه. ويروى ذلك عن ابن عباس، وهو قول مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ويروي ذلك مرفوعًا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عطاء في قوله: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}، قال: ولذكر الله أكبر من أن تبقى معه معصية. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} قال عطاء: يريد لا يخفى عليه شيء.